اضطراب طيف التوحد ليس مرضًا، بل هو اضطراب عصبي نمائي يؤثر على إمكانيات الشخص في التواصل الاجتماعي، النطق واللغة، وغالبًا ما يظهر عند الأطفال، لكن قد يتم تشخيصه في أي عمر. لا يوجد سبب محدد له، كما أن الأعراض تختلف من طفل لآخر. يتفاعل الأشخاص المصابون بالتوحد مع بيئتهم الاجتماعية بطريقة خاصة وغير نمطية. وفي الوقت نفسه، قد يتميزون في مجالات معينة. على سبيل المثال، قد يمتلكون مهارات استثنائية في تعلم التفاصيل، قد يتمتعون بذاكرة طويلة المدى قوية وانتباه دقيق للتعلم البصري والسمعي.  

بمعنى آخر هو اختلاف وليس مرضًا، كما عرّفه الطبيب النفسي النمساوي الأمريكي الدكتور ليو كانر، المعروف بوصفه الرائد للتوحد وملاحظاته حوله. وقد كتب أول مقال ناقش هذا الاضطراب تحت عنوان “اضطرابات التماس العاطفي التوحدية”، مُعتبِرًا إياه اضطرابًا عاطفيًا يؤثر في الأفراد، وليس مرضًا يصيب المرضى.  

وقد تم الاعتراف باضطراب طيف التوحد كطيف وليس كمرض بسبب عدم وجود أسباب محددة أو أعراض موحدة يعاني منها جميع الأطفال. وبالتالي، لا يوجد علاج واحد يناسب الجميع. بل يتم اتباع نهج علاجي متعدد التخصصات، حيث يُساعد الإرشاد والعلاج الفردي في تمكين الأطفال من التفاعل بشكل أفضل مع بيئاتهم وتطوير مهارات التواصل لديهم.

تاريخ وأنواع التوحد

تم اكتشاف أنواع التوحد بالتدريج مع مرور الوقت، إذ كان يُعتقد في البداية أنها حالات منفصلة، لكنها تُعرف الآن جميعها ضمن اضطرابات طيف التوحد . 

التوحد الطفولي :

أول من استخدم مصطلح “التوحد” كان الطبيب النفسي ليو كانر، حيث لاحظ أن هناك أنماطًا متشابهة لدى عشرة أطفال، تمثلت في تأخر النطق، ضعف التواصل غير اللفظي، الحساسية المفرطة تجاه اي تغيير في الروتين اليومي لهؤلاء الأطفال، صعوبات في التفاعل مع الآخرين، وتعثر في فهم الإشارات الاجتماعية.

متلازمة أسبرجر :

قام الطبيب النمساوي هانز أسبرجر بتوثيق ملاحظاته حول بعض الأطفال الذين يعانون من ضعف في المهارات الاجتماعية، التزام صارم بالروتين واهتمامات محدودة جدًا. وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن الأطفال المصابين بمتلازمة أسبرجر يمتلكون مهارات استثنائية، ذاكرة قوية وذكاءً عاليًا. وتتميز هذه المتلازمة عن باقي فئات التوحد بعدم وجود صعوبات لغوية، وعادةً ما يكون مستوى الذكاء متوسطًا أو عاليًا. وتُستخدم هذه التسمية غالبًا لوصف الأشخاص ذوي المهارات اللغوية المتقدمة ولكن الذين لا يزالون يواجهون صعوبات في التواصل والتفاعل الاجتماعي، خصوصًا الأطفال دون سن الثلاث سنوات.

اضطراب التفكك الطفولي :

ينمو الأطفال المصابون بهذا الاضطراب نموًا طبيعيًا لمدة عامين على الأقل، ثم يفقدون فجأة المهارات الاجتماعية والتواصلية والحركية التي اكتسبوها سابقًا.

الاضطراب النمائي الشامل أو التوحد غير النمطي :

يُطلق هذا التشخيص على الأطفال الذين يعانون من تأخر في المهارات الاجتماعية والتواصلية ولكن لا تنطبق عليهم معايير الأنواع الأخرى من اضطرابات طيف التوحد.

الأعراض

تختلف الأعراض من شخص لآخر، لكن بعض العلامات والأعراض الشائعة تشمل:

  • تجنّب التواصل البصري مع الآخرين.  
  • الاهتمام بعدد قليل جدًا من الأشياء أو الاهتمام الشديد والمفرط بأشياء معينة.  
  • حركات أو كلمات أو أنشطة متكررة، مثل تكرار الكلمات أو العبارات، أو التأرجح ذهابًا وإيابًا.  
  • حساسية مفرطة تجاه اللمس الجسدي أو الأصوات التي تكون طبيعية بالنسبة للآخرين.  
  • صعوبة في التكيف مع التغيرات في الروتين اليومي.  
  • تجنّب التفاعل أو الاتصال الجسدي مع الآخرين.  
  • صعوبة في فهم الإيماءات وتعبيرات الوجه ونبرة الصوت.  
  • تأخر الكلام، وغالبًا ما يكون بطريقة غنائية أو بنبرة مسطحة أو أشبه بالصوت الآلي.  
  • في بعض الحالات، قد تحدث نوبات صرع، وغالبًا ما تبدأ خلال فترة المراهقة. ويجدر الإشارة إلى أن نوبات الصرع لا تعني دائمًا الاهتزاز؛ فالنوبة الأكثر شيوعًا المرتبطة باضطراب طيف التوحد هي “نوبات الغياب”، حيث يفقد الطفل وعيه لبضع ثوانٍ دون أن يدرك ما حصل.

وغالبًا ما تكون هناك خصائص إضافية:

  1. خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب أعلى من المعدل لدى عموم الناس.  
  2. يمكن أن تترافق اضطرابات أخرى مع اضطراب طيف التوحد، مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه.  

وهذه الاضطرابات قد تعيق الأداء اليومي سواء في المدرسة أو العمل أو في الحياة العامة. 

الأسباب وعوامل خطر الإصابة باضطراب طيف التوحد

لا يوجد سبب محدد لاضطراب طيف التوحد، بل هناك عدة عوامل قد تسهم في الإصابة به، وتشمل تلك العوامل: عوامل وراثية، عوامل بيئية، الحرمان العاطفي و ضعف التفاعل الاجتماعي، خصوصًا من جهة الأم.

العوامل الوراثية

قد تكون الأمراض الوراثية أو الطفرات الجينية لدى بعض الأطفال سببًا في الإصابة بالتوحد. فقد تتضمن هذه الطفرات الجينية الجينات التي تنظم نمو الدماغ، أو تعيق التواصل بين خلايا الدماغ، فتؤثر في شدة الأعراض السريرية.

العوامل البيئية

قد تؤدي بعض العوامل البيئية، مثل حدوث مضاعفات أثناء الحمل، تناول أدوية معينة أو التعرض لبعض السموم إلى الإصابة باضطراب طيف التوحد.

الارتباط العاطفي

العلاقة العاطفية بين الطفل والأم، خصوصًا في السنة الأولى من العمر، قد تكون عاملاً في الإصابة بالتوحد. فعدم القدرة على بناء علاقة عاطفية فعالة أو عند التعرض لحرمان عاطفي في الطفولة المبكرة يمكن أن يؤدي إلى ظهور أعراض مرتبطة بالتوحد.

عوامل خطر الإصابة باضطراب طيف التوحد

يمكن تشخيص اضطراب طيف التوحد لدى أفراد من جميع الجنسيات والأعراق، إلا أن هناك بعض العوامل التي قد تزيد من خطر الإصابة به، ومنها:

  • الجنس: الأولاد أكثر عرضة للإصابة بالتوحد من البنات.  
  • التاريخ العائلي: العائلات التي لديها طفل واحد مصاب تكون أكثر عرضة لإنجاب أطفال آخرين مصابين باضطراب طيف التوحد. وإذا كان أحد الوالدين مصابًا بالتوحد، فقد يعاني الطفل أيضًا من صعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل.  
  • اضطرابات أخرى: مثل متلازمة الكروموسوم الهش (Fragile X) التي تسبب إعاقة عقلية، التصلب الحدبي (Tuberous Sclerosis) الذي يتسبب في حدوث أورام حميدة في الدماغ، ومتلازمة ريت (Rett Syndrome) التي تؤدي إلى التراجع في التطور الحركي ونمو الحركات النمطية، جميعها تزيد من احتمال الإصابة بطيف التوحد. 
  • الولادة المبكرة: الأطفال الذين يولدون قبل الأسبوع السادس والعشرين من الحمل يكونون أكثر عرضة للإصابة بالتوحد.

تشخيص اضطراب طيف التوحد

يتضمن تشخيص اضطراب طيف التوحد عدة إجراءات تشمل التقييم السريري، الفحوصات التفصيلية والملاحظة السلوكية، وتتضمن خطوات التشخيص ما يلي:

التقييم السريري والتاريخ المفصل

الخطوة الأولى في تشخيص التوحد هي التقييم السريري، والذي يتضمن أخذ تاريخ مفصل يشمل التاريخ الطبي والاجتماعي وتاريخ الولادة للمريض.

الفحص العام للنمو والتطور

أثناء الفحوصات الدورية، يُجرى فحص عام للنمو لاكتشاف أعراض التوحد. إذا ظهرت علامات تشير إلى وجود التوحد، يُوصى بإجراء تقييم أكثر تخصصًا من قبل مختصين مثل أطباء الأطفال المتخصصين في النمو، أطباء النفس، الأطباء النفسيين للأطفال، أخصائيي علم النفس أو أخصائيي النطق واللغة لتقييم تطور الطفل بشكل مفصل.

تشخيص البالغين المصابين بالتوحد

يتطلب تشخيص التوحد لدى البالغين أن يقوم المختص بإجراء سلسلة من الملاحظات المباشرة، كما يأخذ بعين الاعتبار الأعراض التي يُفصح عنها المريض، بالإضافة إلى التاريخ المرضي من المشكلات المتعلقة بالتواصل الاجتماعي والسلوك منذ الطفولة.

تقييم الأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد

يتم تقييم الأطفال بناءً على عدة عوامل من أجل تكوين صورة شاملة عن حالتهم، ومن أهم معايير التقييم ما يلي:

  1. المهارات اللغوية: 
    يقوم طبيب أعصاب الأطفال بتقييم مهارات التواصل اللغوي لدى الطفل لقياس قدراته في التواصل اللفظي وغير اللفظي.  
  2. المهارات المناسبة للعمر: 
    يُقيّم الطبيب مهارات الطفل المناسبة لعمره مثل الأكل، المشي، ارتداء الملابس والتحكم في الإخراج، وذلك لتحديد مستوى الاستقلالية ومدى تطور الحالة.  
  3. فحوصات الدم والسمع:
    يُجرى اختبار الدم وفحص السمع لاستبعاد وجود حالات طبية أخرى قد تكون سببًا في ظهور أعراض التوحد لدى الأطفال.

علاج اضطراب طيف التوحد

لا يوجد نهج واحد محدد لعلاج اضطراب طيف التوحد. يشمل العلاج جهودًا متعددة وتعاونًا بين فريق من المتخصصين، مثل أطباء أعصاب الأطفال، معالجي النطق، المعالجين المهنيين ومعالجي تحليل السلوك التطبيقي، بالإضافة إلى تنسيق الجهود بين الأسرة، مقدمي الرعاية والمدرسة، لإدارة السلوك التوحدي.

الهدف الأساسي من العلاج

الهدف الرئيسي من العلاج هو مساعدة الطفل على تطوير مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي، وتمكينه من التكيف مع بيئته بطريقة فعالة ومتبادلة.

دور الوالدين/الأسرة ومقدمي الرعاية

  • فهم الأعراض التي تظهر على الطفل من أجل تقديم التدخل المناسب في الوقت المناسب.  
  • خلق بيئة من الدعم، التمكين والحب.  
  • التعرف على نقاط القوة والاحتياجات لدى الطفل للمساعدة في إعداد خطة علاجية فردية وفعالة مع الطبيب والمعالجين.  
  • الالتزام بتعليمات الطبيب ونصائحه والأدوية عند الحاجة.  
  • تعلم كيفية التفاعل والعيش مع الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد، والوعي باحتياجاته، وبناء علاقات داعمة له.  
  • طلب المساعدة عندما تصبح الحالة صعبة ولا يمكن إدارتها بشكل فردي. 

دور طبيب أعصاب الأطفال

  • التشخيص الدقيق للمشكلة.  
  • إعداد خطة علاجية شخصية مناسبة.  
  • تحفيز الطفل وتقديم الإرشاد النفسي للأهل.  
  • وصف الأدوية التي تُساهم في تقليل التهيج، العدوانية، السلوك التكراري، فرط النشاط، القلق أوالاكتئاب.

دور المعالجين

  • علاج النطق: لتطوير مهارات التواصل.  
  • العلاج الوظيفي: لاكتساب مهارات الحياة اليومية وتحسين التنسيق الحركي.  
  • العلاج الطبيعي: لتحسين الحركة والتوازن.  
  • الإرشاد النفسي: لمعالجة السلوكيات غير المرغوبة والتحديات العاطفية.

دور المدرسة

  • في بعض الحالات، تكون المدارس الخاصة ضرورية للأطفال الذين يحتاجون إلى برامج تعليمية مصممة خصيصًا لتناسب قدراتهم ومهاراتهم الخاصة.

الوقاية من التوحد

على الرغم من عدم وجود طريقة مؤكدة للوقاية من اضطراب طيف التوحد، إلا أن هناك بعض الوسائل التي يمكن أن تقلل من خطر إصابة الطفل به. كما أن الاكتشاف المبكر والعلاج الفعّال يساعدان في إدارة الحالة بشكل أفضل.

الرعاية أثناء الحمل

خلال فترة الحمل، يمكن للأم زيادة فرص إنجاب طفل سليم من خلال بعض التغييرات في نمط الحياة:

  1. المتابعة الطبية المنتظمة أثناء الحمل مهمة لمراقبة نمو الجنين والكشف المبكر عن الأمراض الوراثية المحتملة.  
  2. اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن غني بالفيتامينات، ويحتوي على كميات كافية من الخضروات والألياف.  
  3. الامتناع التام عن التدخين، وشرب الكحول، وتعاطي المخدرات.
  4. اللقاحات: التأكد من تلقي لقاح الحصبة الألمانية (الروبيلا) قبل الحمل، لأنه يمكن أن يمنع التوحد المرتبط بالروبيلا.

إنشاء بيئة داعمة

وجود بيئة داعمة عاطفيًا ومحفزة خلال سنوات الطفولة المبكرة يُعد عاملًا أساسيًا في تطور الطفل.

  • الترابط العاطفي: تقوية العلاقة العاطفية بين الوالدين والطفل، خصوصًا خلال السنة الأولى من العمر، يمكن أن يؤثر بشكل إيجابي على النمو العاطفي والاجتماعي للطفل.  
  • مراقبة النمو: إجراء فحوصات دورية مبكرة من قبل طبيب أعصاب الأطفال لرصد أي علامات مبكرة للتأخر أو الاضطرابات في النمو.

النصائح الغذائية لأطفال التوحد

  • الالتزام بجدول منتظم للأنشطة ومواعيد الوجبات لتقليل القلق والانزعاج الناتج عن تغير الروتين.  
  • الاستفادة من اهتمامات الطفل الخاصة لتسهيل التغييرات الغذائية.  
  • تقليل الضوضاء والروائح القوية أثناء تناول الطعام لخلق بيئة مريحة.  
  • إدخال تغييرات تدريجية واحدة في كل مرة، وتقديم أطعمة مشابهة لتوسيع قائمة المأكولات المقبولة.  
  • تقديم الأطعمة الجديدة تدريجيًا، وإشراك الطفل في التسوق أو تحضير الطعام لزيادة الألفة.

التقدّم في هذا المجال يحتاج وقتًا. قدم الدعم والمديح عند كل خطوة صغيرة يحرزها الطفل.

الخاتمة:

فهم التوحد لا يقتصر فقط على التعرف على الأعراض، بل يتعداه إلى رؤية الشخص ككل. ورغم أن المسار قد يكون معقدًا ومختلفًا من فرد لآخر، فإن الدعم المناسب، التدخل المبكر، وتوفير بيئة داعمة يمكن أن تمكّن الأطفال المصابين بالتوحد من الازدهار بطريقتهم الخاصة والمميزة. الأمر لا يتعلق بتغييرهم، بل بالوصول إليهم حيث كانوا.

مشاركه فى:

كتب بواسطة
د.رهف وجدي

كاتب محتوى طبي

الدكتورة رهف وجدي هي أخصائية أشعة نووية مصرية ومنشئة محتوى طبي تدمج خبرتها السريرية مع الإبداع الرقمي. تتمتع بخبرة تزيد عن خمس سنوات في كتابة المحتوى الطبي باللغتين العربية والإنجليزية، وهي مكرسة لتبسيط المعلومات الطبية المعقدة وجعلها في متناول جمهور...

تواصل معنا

الموقع